فصل: فَصْلٌ: (فِي حُكْمِ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***


كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ

المتن‏:‏

الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ تُعَمَّرْ قَطُّ إنْ كَانَتْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ؛ فَلِلْمُسْلِمِ تَمَلُّكُهَا بِالْإِحْيَاءِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُ قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ‏:‏ الْمَوَاتُ الْأَرْضُ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ‏.‏

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ‏:‏ حَدُّ الْمَوَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا لَمْ يَكُنْ عَامِرًا وَلَا حَرِيمًا لِعَامِرٍ - قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ أَوْ بَعُدَ - وَكَلَامُ الْمَتْنِ يُوَافِقُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ هُنَا‏:‏ ‏(‏الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ تُعَمَّرْ قَطُّ‏)‏ وَقَالَ فِيمَا بَعْدُ‏:‏ وَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ حَرِيمُ مَعْمُورٍ‏.‏ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ أَخْبَارٌ، كَخَبَرِ ‏{‏مَنْ عَمَّرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا‏}‏ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتَّمْلِيكُ بِهِ مُسْتَحَبٌّ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُهَذَّبِ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ لِحَدِيثِ ‏{‏مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتْ الْعَوَافِي - أَيْ‏:‏ طُلَّابُ الرِّزْقِ - مِنْهَا فَهُوَ صَدَقَةٌ‏}‏ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ‏.‏ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ‏:‏ وَهُوَ قِسْمَانِ‏:‏ أَصْلِيٌّ وَهُوَ مَا لَمْ يُعَمَّرْ قَطُّ، وَطَارِئٌ وَهُوَ مَا خَرِبَ بَعْدَ عِمَارَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي نَفْيِ الْعِمَارَةِ التَّحَقُّقُ، بَلْ يَكْفِي عَدَمُ تَحَقُّقِهَا بِأَنْ لَا يُرَى أَثَرُهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ أَصْلِ شَجَرٍ وَنَهْرٍ وَجُدُرٍ وَأَوْتَادٍ، وَنَحْوِهَا‏.‏ ‏(‏إنْ كَانَتْ‏)‏ تِلْكَ الْأَرْضُ ‏(‏بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ؛ فَلِلْمُسْلِمِ‏)‏ أَيْ‏:‏ يَجُوزُ لَهُ ‏(‏تَمَلُّكُهَا بِالْإِحْيَاءِ‏)‏ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ الْإِمَامُ اكْتِفَاءً بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ، وَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُهُ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ‏.‏ نَعَمْ لَوْ حَمَى الْإِمَامُ لِنَعَمِ الصَّدَقَةِ مَوْضِعًا مِنْ الْمَوَاتِ فَأَحْيَاهُ شَخْصٌ؛ لَمْ يَمْلِكْهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْأَئِمَّةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِالتَّمَلُّكِ قَدْ يُفْهِمُ التَّكْلِيفَ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يَتَمَلَّكَانِ بَلْ يُمَلَّكَانِ، وَكَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ يُفْهِمُهُ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَيَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِ‏.‏ فَلِلْمُسْلِمِ، مَا لَوْ تَحَجَّرَ مُسْلِمٌ مَوَاتًا وَلَمْ يَتْرُكْ حَقَّهُ وَلَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ يَسْقُطُ فِيهَا حَقُّهُ؛ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ تَمَلُّكُهُ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ مَلَكَهُ، وَإِنْ حُمِلَ الْجَوَازُ فِي كَلَامِهِ عَلَى الصِّحَّةِ؛ فَلَا إيرَادَ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِهِ تَمَلُّكُ الْأَرْضِ الَّتِي لَمْ تُعَمَّرْ - مَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا كَالطَّرِيقِ وَالْمَقْبَرَةِ وَكَذَا عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى - وَمَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَعَمِ الصَّدَقَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ بَعْدُ، وَمِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ‏:‏ لَمْ تُعَمَّرْ قَطُّ مَا كَانَ مَعْمُورًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ خَرِبَ وَبَقِيَ آثَارُ عِمَارَتِهِمْ؛ فَلِلْمُسْلِمِ تَمَلُّكُهُ كَمَا سَيَذْكُرُهُ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَيْسَ هُوَ لِذِمِّيٍّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَمَا عَمَّرَهُ الْكَافِرُ فِي مَوَاتِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يُمَلَّكُهُ، كَمَا قَالَ ‏(‏وَلَيْسَ هُوَ‏)‏ أَيْ‏:‏ إحْيَاءُ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ ‏(‏لِذِمِّيٍّ‏)‏ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ كَمَا فُهِمَ بِالْأَوْلَى - وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ الْإِمَامُ - لِأَنَّهُ اسْتِعْلَاءٌ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِمْ بِدَارِنَا، فَلَوْ أَحْيَا ذِمِّيٌّ أَرْضًا نُزِعَتْ مِنْهُ وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ، فَلَوْ نَزَعَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ وَأَحْيَاهَا مَلَكَهَا - وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ - كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ؛ إذْ لَا أَثَرَ لِفِعْلِ الذِّمِّيِّ، فَإِنْ بَقِيَ لَهُ فِيهَا عَيْنٌ؛ نَقَلَهَا، وَلَوْ زَرَعَهَا الذِّمِّيُّ وَزَهَدَ فِيهَا، صَرَفَ الْإِمَامُ الْغَلَّةَ فِي الْمَصَالِحِ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُ الْغَلَّةِ، وَلِلذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ الِاحْتِطَابُ وَالِاحْتِشَاشُ وَالِاصْطِيَادُ بِدَارِنَا وَنَقْلُ تُرَابٍ مِنْ مَوَاتِ دَارنَا لَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِيهِ، أَمَّا الْحَرْبِيُّ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنْ لَوْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مُلِّكَهُ، كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي‏.‏

المتن‏:‏

وَإِنْ كَانَتْ بِبِلَادِ الْكُفَّارِ فَلَهُمْ إحْيَاؤُهَا، وَكَذَا لِلْمُسْلِمِ إنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَذُبُّونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِنْ كَانَتْ‏)‏ تِلْكَ الْأَرْضُ ‏(‏بِبِلَادِ الْكُفَّارِ‏)‏ دَارَ حَرْبٍ وَغَيْرِهَا ‏(‏فَلَهُمْ إحْيَاؤُهَا‏)‏ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ دَارِهِمْ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْنَا فِيهِ؛ فَيُمَلَّكُونَهُ بِالْإِحْيَاءِ كَالصَّيْدِ‏.‏ ‏(‏وَكَذَا لِلْمُسْلِمِ‏)‏ أَيْضًا إحْيَاؤُهَا ‏(‏إنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَذُبُّونَ‏)‏ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا‏:‏ أَيْ يَدْفَعُونَ ‏(‏الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا‏)‏ كَمَوَاتِ دَارِنَا، وَلَا يَمْلِكُهَا بِالِاسْتِيلَاءِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُمْ حَتَّى يَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ ذَبُّوهُمْ عَنْهَا فَلَيْسَ لَهُ إحْيَاؤُهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَالْمَعْمُورِ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَإِذَا اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهَا وَهُمْ يَذُبُّونَ عَنْهَا، فَالْغَانِمُونَ أَحَقُّ بِإِحْيَاءِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهَا، وَأَهْلُ الْخُمْسِ أَحَقُّ بِإِحْيَاءِ الْخُمْسِ، فَإِنْ أَعْرَضَ كُلُّ الْغَانِمِينَ عَنْ إحْيَاءِ مَا يَخُصُّهُمْ؛ فَأَهْلُ الْخُمْسِ أَحَقُّ بِهِ كَالْمُتَحَجَّرِ؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ فَكَانُوا أَحَقَّ بِهِ اخْتِصَاصًا، فَإِنْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَنَا وَهُمْ يَسْكُنُونَ بِجِزْيَةٍ، فَالْمَعْمُورُ مِنْهَا فَيْءٌ وَمَوَاتُهَا الَّذِي كَانُوا يَذُبُّونَ عَنْهُ يَتَحَجَّرُ لِأَهْلِ الْفَيْءِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ فَيَحْفَظُهُ الْإِمَامُ لَهُمْ فَلَا يَكُونُ فَيْئًا فِي الْحَالِ، أَوْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَهُمْ فَالْمُتَحَجِّرُ فِي ذَلِكَ الْمَوَاتِ لَهُمْ تَبَعًا لِلْمَعْمُورِ، كَمَا أَنَّ تَحَجُّرَ مَوَاتِ دَارِنَا لَنَا تَبَعًا لِلْمَعْمُورِ، فَإِنْ فَنِيَ الذِّمِّيُّونَ؛ فَكَنَائِسُهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي فَنَوْا عَنْهَا، وَلَا وَارِثَ لَهُمْ‏.‏

المتن‏:‏

وَمَا كَانَ مَعْمُورًا فَلِمَالِكِهِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَبِيَعُ النَّصَارَى الَّتِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا تُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ‏.‏ وَالْمُرَادُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ‏:‏ كُلُّ بَلْدَةٍ بَنَاهَا الْمُسْلِمُونَ - كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةَ - أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا - كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ - أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً - كَخَيْبَرِ وَسَوَادِ الْعِرَاقِ - أَوْ صُلْحًا، عَلَى أَنْ تَكُونَ الرُّقْبَةُ لَنَا وَهُمْ يَسْكُنُونَهَا بِخَرَاجٍ، وَإِنْ فُتِحَتْ عَلَى أَنَّ الرُّقْبَةَ لَهُمْ؛ فَمَوَاتُهَا كَمَوَاتِ دَارِ الْحَرْبِ‏.‏ وَلَوْ غَلَبَ الْكُفَّارُ عَلَى بَلْدَةٍ يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ - كَطَرَسُوسَ - لَا تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ‏.‏ ‏(‏وَمَا كَانَ مَعْمُورًا‏)‏ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنْ خَصَّصَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ‏:‏ ‏(‏فَلِمَالِكِهِ‏)‏ إنْ عُرِفَ - مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ نَحْوَهُ - أَوْ لِوَارِثِهِ، وَلَا يُمَلَّكُ مَا خَرِبَ مِنْهُ بِالْإِحْيَاءِ‏.‏ نَعَمْ، اسْتَثْنَى الْمَاوَرْدِيُّ مَا أَعْرَضَ عَنْهُ كَافِرٌ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

شَمِلَ كَلَامُهُ مَا كَانَ مَعْمُورًا فِي الْحَالِ أَوْ مَعْمُورًا فِي الزَّمَنِ السَّابِقِ ثُمَّ انْدَرَسَ، بَلْ هُوَ فِي هَذَا أَظْهَرُ وَأَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ‏.‏

المتن‏:‏

فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ وَالْعِمَارَةُ إسْلَامِيَّةٌ فَمَالٌ ضَائِعٌ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَالْمَعْمُورُ لَا يَدْخُلُ الْإِحْيَاءُ فِيهِ بَلْ هُوَ لِمَالِكِهِ ‏(‏فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ‏)‏ مَالِكُهُ ‏(‏وَالْعِمَارَةُ إسْلَامِيَّةٌ فَمَالٌ‏)‏ أَيْ‏:‏ فَهَذَا الْمَعْمُورُ مَالٌ ‏(‏ضَائِعٌ‏)‏؛ لِأَنَّهُ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ نَحْوِهِ، وَأَمْرُهُ إلَى الْإِمَامِ فِي حِفْظِهِ إلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ، أَوْ بَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ أَوْ اسْتِقْرَاضِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ خَرِبَتْ قَرْيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَعَطَّلَتْ وَلَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهَا، فَهَلْ لِلْإِمَامِ إعْطَاؤُهَا لِمَنْ يَعْمُرُهَا‏؟‏‏.‏ وَجْهَانِ‏:‏ أَوْجَهُهُمَا‏:‏ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ السُّبْكِيّ‏:‏ وَكُلُّ مَا لَا يُعْرَفُ مَالِكُهُ وَلَا يُرْجَى ظُهُورُهُ فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ كَسَائِرِ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَيْضًا مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى مِنْ أَخْذِ الْعُشُورِ وَالْمُكُوسِ وَجُلُودِ الْبَهَائِمِ، وَنَحْوِهَا الَّتِي تُذْبَحُ وَتُؤْخَذُ مِنْ مُلَّاكِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ مُلَّاكُهَا أَنَّهَا تَصِيرُ لِبَيْتِ الْمَالِ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِنْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةً فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِنْ كَانَتْ‏)‏ - أَيْ الْعِمَارَةُ - ‏(‏جَاهِلِيَّةً‏)‏ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهَا آثَارُ عِمَارَاتِهِمْ ‏(‏فَالْأَظْهَرُ‏)‏‏.‏ وَحَكَى جَمْعٌ الْخِلَافَ عَلَى وَجْهَيْنِ‏:‏ ‏(‏أَنَّهُ‏)‏ - أَيْ مَا كَانَ مَعْمُورًا جَاهِلِيًّا ثُمَّ خَرِبَ - ‏(‏يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ‏)‏؛ إذْ لَا حُرْمَةَ لِمِلْكِ الْجَاهِلِيَّةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوَاتٍ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا كَانَتْ بِبِلَادِهِمْ وَهُمْ لَا يَذُبُّونَ عَنْهُ، وَإِلَّا فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي مَعْمُورٍ أَنَّهُ عُمِّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ الْإِسْلَامِ‏.‏ قَالَ فِي الْمَطْلَبِ‏:‏ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الرِّكَازِ الَّذِي جُهِلَ حَالُهُ‏:‏ أَيْ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لُقَطَةٌ‏.‏ وَالْأَرْضُ الْعَامِرَةُ إذَا لَبِسَهَا رَمْلٌ أَوْ غَرَّقَهَا مَاءٌ فَصَارَتْ بَحْرًا ثُمَّ زَالَ الرَّمْلُ أَوْ الْمَاءُ؛ فَهِيَ لِمَالِكِهَا إنْ عُرِفَ، وَمَا ظَهَرَ مِنْ بَاطِنِهَا يَكُونُ لَهُ، وَلَوْ لَبِسَهَا الْوَادِي بِتُرَابٍ آخَرَ، فَهِيَ بِذَلِكَ التُّرَابِ لَهُ، كَمَا فِي الْكَافِي، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ إسْلَامِيَّةً فَمَالٌ ضَائِعٌ، أَوْ جَاهِلِيَّةً فَتُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ عَلَى مَا مَرَّ‏.‏

وَأَمَّا الْجَزَائِرُ الَّتِي تُرَبِّيهَا الْأَنْهَارُ‏:‏ فَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا مِنْ أَرَاضِي بِلَادٍ - كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي نَهْرِ النِّيلِ - فَحُكْمُهَا حُكْمُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ، وَإِلَّا بِأَنْ رُبِّيَتْ مِنْ أَرْضِ النَّهْرِ وَلَيْسَتْ حَرِيمًا لِمَعْمُورٍ فَهِيَ مَوَاتٌ، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ذَلِكَ فَأَمْرُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ‏.‏ هَذَا مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَلَمْ أَرَ مَنْ حَقَّقَ هَذَا الْمَحَلَّ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ حَرِيمٌ مَعْمُورٌ، وَهُوَ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ، فَحَرِيمُ الْقَرْيَةِ النَّادِي، وَمُرْتَكَضُ الْخَيْلِ، وَمُنَاخُ الْإِبِلِ، وَمَطْرَحُ الرَّمَادِ وَنَحْوُهَا، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ فِي الْمَوَاتِ مَوْقِفُ النَّازِحِ، وَالْحَوْضُ، وَالدُّولَابُ، وَمُجْتَمَعُ الْمَاءِ، وَمُتَرَدِّدُ الدَّابَّةِ، وَحَرِيمُ الدَّارِ فِي الْمَوَاتِ مَطْرَحُ رَمَادٍ وَكُنَاسَةٌ وَثَلْجٌ، وَمَمَرٌّ فِي صَوْبِ الْبَابِ، وَحَرِيمُ آبَارِ الْقَنَاةِ مَا لَوْ حُفِرَ فِيهِ نَقَصَ مَاؤُهَا أَوْ خِيفَ الِانْهِيَارُ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ حَرِيمُ مَعْمُورٍ‏)‏؛ لِأَنَّ مَالِكَ الْمَعْمُورِ مُسْتَحِقٌّ لِمَرَافِقِهِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ حَرِيمًا لِتَحْرِيمِ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ أَنَّ الْحَرِيمَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَهُوَ وَجْهٌ وَالْأَصَحُّ خِلَافُهُ، لَكِنَّهُ لَا يُبَاعُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَهُ أَبُو عَاصِمٍ الْعَبَّادِيُّ، كَمَا لَا يُبَاعُ شِرْبُ الْأَرْضِ وَحْدَهُ‏.‏ ‏(‏وَهُوَ‏)‏ أَيْ الْحَرِيمُ ‏(‏مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ‏)‏ بِالْمَعْمُورِ وَإِنْ حَصَلَ أَصْلُ الِانْتِفَاعِ بِدُونِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

كَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَ بَيَانِ الْحَرِيمِ عَلَى حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ ‏(‏فَحَرِيمُ الْقَرْيَةِ‏)‏ الْمُحْيَاةِ ‏(‏النَّادِي‏)‏ وَهُوَ الْمَجْلِسُ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ يَنْدُونَ‏:‏ أَيْ يَتَحَدَّثُونَ، وَلَا يُسَمَّى الْمَجْلِسُ نَادِيًا إلَّا وَالْقَوْمُ فِيهِ، وَيُطْلَقُ النَّادِي عَلَى أَهْلِ الْمَجْلِسِ أَيْضًا، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ مُجْتَمَعُ النَّادِي، وَهِيَ أَوْلَى‏.‏ نَعَمْ إنْ قُدِّرَ فِي كَلَامِ الْمَتْنِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ؛ سَاوَى تَعْبِيرَ الْمُحَرَّرِ ‏(‏وَمُرْتَكَضُ الْخَيْلِ‏)‏ بِفَتْحِ الْكَافِ وَهُوَ مَكَانُ سُوقِهَا‏.‏ أَيْ إذَا كَانُوا خَيَّالَةً كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ ‏(‏وَمُنَاخُ الْإِبِلِ‏)‏ بِضَمِّ الْمِيمِ بِخَطِّهِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تُنَاخُ فِيهِ إذَا كَانُوا أَهْلَ إبِلٍ عَلَى قِيَاسِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ ‏(‏وَمَطْرَحُ‏)‏ السِّرْجِينِ وَالْقُمَامَاتِ، وَ ‏(‏الرَّمَادِ وَنَحْوُهَا‏)‏ كَمَرَاحِ غَنَمٍ وَسَيْلِ مَاءٍ وَمَلْعَبِ صِبْيَانٍ‏.‏ وَكَذَا الْمَرْعَى وَالْمُحْتَطَبُ الْمُسْتَقِلَّانِ الْقَرِيبَانِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَكَذَا الْبَعِيدَانِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ - إذَا لَمْ يَفْحُشْ - بُعْدُهُمَا عَنْ الْقَرْيَةِ، وَكَانَ بِحَيْثُ يَعُدَّانِ مِنْ مَرَافِقِ الْقَرْيَةِ‏.‏ أَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَقِلَّا وَلَكِنْ كَانَ يَرْعَى وَيَحْتَطِبُ مِنْهُمَا عِنْدَ خَوْفِ الْبُعْدِ فَلَيْسَا بِحَرِيمٍ ‏(‏وَحَرِيمُ الْبِئْرِ‏)‏ الْمَحْفُورَةِ ‏(‏فِي الْمَوَاتِ مَوْقِفُ النَّازِحِ‏)‏ مِنْهُمَا وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ‏.‏ أَمَّا الْمَحْفُورَةُ فِي مِلْكِهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْعُرْفُ

تَنْبِيهٌ‏:‏

عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ الْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْمَوَاتِ وَهِيَ حَسَنَةٌ، فَإِنَّ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ مُشْكِلَةٌ مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابُ؛ إذْ لَا يَصِحُّ قَوْلُهُ فِي الْمَوَاتِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ؛ إذْ شَرْطُ الْحَالِ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ عَامِلًا فِيهَا أَوْ يَكُونَ الْمُضَافُ جُزْءًا مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَوْ كَجُزْئِهِ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ‏.‏ وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ إنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ كَجُزْئِهَا، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ‏{‏اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيم حَنِيفًا‏}‏ ‏(‏وَالْحَوْضُ‏)‏ بِالرَّفْعِ - وَكَذَا الْمَعْطُوفَاتُ بَعْدَهُ - عَطْفٌ عَلَى ‏(‏مَوْقِفُ‏)‏، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَصُبُّ النَّازِحُ فِيهِ مَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْبِئْرِ، وَكَذَا عَبَّرَ فِي الْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ بِمَصَبِّ الْمَاءِ، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْحَرِيمَ مَوْضِعُ الْحَوْضِ، وَكَذَا يُقَدَّرُ الْمَوْضِعُ فِي الْمَعْطُوفَاتِ عَلَى الْحَوْضِ‏.‏ ‏(‏وَالدُّولَابُ‏)‏ بِضَمِّ الدَّالِ أَشْهَرُ مِنْ فَتْحِهَا فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ إنْ كَانَ الِاسْتِقَاءُ بِهِ كَمَا قَيَّدَاهُ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا ‏(‏وَمُجْتَمَعُ الْمَاءِ‏)‏ الَّذِي يُطْرَحُ فِيهِ مَا يُخْرَجُ مِنْ الْحَوْضِ لِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ‏:‏ إنَّ ذِكْرَ الْمُجْتَمَعِ مَعَ الْحَوْضِ تَكْرَارٌ ‏(‏وَمُتَرَدَّدُ‏)‏ النَّازِحِ مِنْ ‏(‏الدَّابَّةِ‏)‏ إنْ اسْتَقَى بِهَا أَوْ الْآدَمِيِّ، أَمَّا الْبِئْرُ الْمُتَّخَذَةُ لِلشُّرْبِ فَيُعْتَبَرُ حَرِيمُهَا بِمَوْضِعِ وُقُوفِ الْمُسْتَقِي مِنْهَا، وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ بِحَيْثُ نَقَصَ بِهِ مَاءُ الْأُولَى؛ مُنِعَ فِي الْأَصَحِّ وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي حَرِيمِ الْمَوَاتِ ‏(‏وَحَرِيمُ الدَّارِ‏)‏ الْمَبْنِيَّةِ ‏(‏فِي الْمَوَاتِ مَطْرَحُ رَمَادٍ وَكُنَاسَةٍ وَثَلْجٍ‏)‏ فِي بَلَدٍ يُثْلِجُ فِيهِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ ‏(‏وَمَمَرٌّ فِي صَوْبِ الْبَابِ‏)‏ لِيَتَوَقَّفَ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِصَوْبِ الْبَابِ جِهَتُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِحْقَاقَهُ قُبَالَةَ الْبَابِ عَلَى امْتِدَادِ الْمَوَاتِ، بَلْ لِغَيْرِهِ إحْيَاءُ مَا فِي قُبَالَةِ الْبَابِ إذَا أَلْقَى لَهُ مَمَرًّا، وَلَوْ احْتَاجَ إلَى انْعِطَافٍ وَازْوِرَارٍ، وَفِنَاءُ جُدَرَانِ الدَّارِ وَهُوَ مَا حَوَالَيْهَا مِنْ الْخَلَاءِ الْمُتَّصِلِ بِهَا لَيْسَ حَرِيمًا لَهَا فِي أَوْجَهِ وَجْهَيْنِ نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ النَّصِّ وَالزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ حَفْرِ بِئْرٍ بِقُرْبِهَا وَمِنْ سَائِرِ مَا يَضُرُّ بِهَا، كَإِلْصَاقِ جِدَارِهِ أَوْ رَمْلِهِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ بِمَا يَضُرُّ مِلْكَ غَيْرِهِ ‏(‏وَحَرِيمُ آبَارِ الْقَنَاةِ‏)‏ الْمُحَيَّاةِ ‏(‏مَا لَوْ حُفِرَ فِيهِ‏)‏ أَيْ‏:‏ الْحَرِيمِ ‏(‏نَقَصَ مَاؤُهَا أَوْ خِيفَ‏)‏ عَلَيْهَا ‏(‏الِانْهِيَارُ‏)‏ أَيْ‏:‏ السُّقُوطُ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَرَاضِي صَلَابَةً وَلِينًا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى مَوْقِفِ نَازِحٍ وَلَا شَيْءٍ مِمَّا مَرَّ فِي بِئْرِ الِاسْتِقَاءِ‏:‏ بَلْ إلَى حِفْظِهَا وَحِفْظِ مَائِهَا‏.‏ أَمَّا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ ثُمَّ حَفَرَ آخَرُ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ؛ فَلَا يُمْنَعُ وَإِنْ نَقَصَ مَاءَ غَيْرِهِ‏.‏ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَفْرَ فِي الِابْتِدَاءِ تَمَلُّكٌ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُ إذَا تَضَرَّرَ بِهِ الْغَيْرُ، وَهُنَا كُلٌّ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَا جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ حَرِيمًا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَفْرِ الْآبَارِ، لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَبْنِيَ فِي الْحَرِيمِ الْمَذْكُورِ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إذْ انْتَهَى الْمَوَاتُ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ مِلْكٌ قَبْلَ تَمَامِ حَدِّ الْحَرِيمِ، فَالْحَرِيمُ إلَى انْتِهَاءِ الْمَوَاتِ، وَضَبَطَ الْمُصَنِّفُ بِخَطِّهِ أَبْآرَ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ السَّاكِنَةِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمُوَحَّدَةِ وَقَلْبُهَا أَلِفًا‏.‏ قَالَ الْجَارْبُرْدِيُّ‏:‏ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا‏.‏

المتن‏:‏

وَالدَّارُ الْمَحْفُوفَةُ بِدُورٍ لَا حَرِيمَ لَهَا، وَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ دَارِهِ الْمَحْفُوفَةَ بِمَسَاكِنَ حَمَّامًا وَإِصْطَبْلًا، وَحَانُوتَهُ فِي الْبَزَّازِينَ حَانُوتَ حَدَّادٍ إذَا احْتَاطَ وَأَحْكَمِ الْجُدْرَانَ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

فَعَلَ مَا الْغَالِبُ فِيهِ ظُهُورُ الْخَلَلِ فِي حِيطَانِ الْجَارِ كَدَقٍّ عَنِيفٍ يُزْعِجُ الْجِيرَانَ وَحَبْسِ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ بِحَيْثُ تَسْرِي النَّدَاوَةُ إلَى جِدَارِ الْجَارِ ‏(‏وَالدَّارُ الْمَحْفُوفَةُ بِدُورٍ‏)‏ بِأَنْ أُحْيِيَتْ كُلُّهَا مَعًا ‏(‏لَا حَرِيمَ لَهَا‏)‏؛ إذْ لَيْسَ جَعْلُ مَوْضِعٍ حَرِيمًا لِدَارٍ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ حَرِيمًا لِأُخْرَى‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ الْمَحْفُوفَةُ لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مِثْلُهَا كُلُّ مَا لَا مَوَاتَ حَوْلَهُ، وَمِنْهُ غَيْرُ الْمَحْفُوفَةِ إذَا كَانَتْ بِطَرِيقٍ نَافِذٍ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ؛ لِأَنَّهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ نَافِذٍ، ‏(‏وَيَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ‏)‏ مِنْ الْمُلَّاكِ ‏(‏فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ‏)‏ فِي التَّصَرُّفِ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ جَارُهُ أَوْ أَدَّى إلَى إتْلَافِ مَالِهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرَ مَاءٍ أَوْ حُشٍّ فَاخْتَلَّ بِهِ جِدَارُ جَارِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِمَا فِي الْحُشِّ مَاءُ بِئْرِهِ؛ لِأَنَّ فِي مَنْعِ الْمَالِكِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ مِمَّا يَضُرُّ جَارَهُ ضَرَرًا لَا جَابِرَ لَهُ ‏(‏فَإِنْ تَعَدَّى‏)‏ بِأَنْ جَاوَزَ الْعَادَةَ فِي التَّصَرُّفِ ‏(‏ضَمِنَ‏)‏ مَا تَعَدَّى فِيهِ لِافْتِيَاتِهِ ‏(‏وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ‏)‏ لِلشَّخْصِ ‏(‏أَنْ يَتَّخِذَ دَارِهِ الْمَحْفُوفَةَ بِمَسَاكِنَ حَمَّامًا‏)‏ وَلَفْظُهُ مُذَكَّرٌ، وَطَاحُونَةً وَمَدْبَغَةً ‏(‏وَإِصْطَبْلًا‏)‏ وَفُرْنًا ‏(‏وَحَانُوتَهُ فِي الْبَزَّازِينَ حَانُوتَ حَدَّادٍ‏)‏ وَقَصَّارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَأَنْ يَجْعَلَهُ مَدْبَغَةً‏.‏ لَكِنْ ‏(‏إذَا احْتَاطَ وَأَحْكَمِ الْجُدْرَانَ‏)‏ إحْكَامًا يَلِيقُ بِمَا يَقْصِدُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَفِي مَنْعِهِ إضْرَارٌ بِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الْمَنْعُ لِلْإِضْرَارِ بِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ فَعَلَ مَا الْغَالِبُ فِيهِ ظُهُورُ الْخَلَلِ فِي حِيطَانِ الْجَارِ كَدَقٍّ عَنِيفٍ يُزْعِجُ الْجِيرَانَ، وَحَبْسِ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ بِحَيْثُ تَسْرِي النَّدَاوَةُ إلَى جِدَارِ الْجَارِ؛ فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ‏.‏ وَالْحَاصِلُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ مَنْعُ مَا يَضُرُّ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ يَلْزَمُ مِنْ حَفْرِهِ سُقُوطُ جِدَارِ جَارِهِ، أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا لَوْ كَانَ لَهُ دَارٌ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ فَلَيْسَ لَهُ جَعْلُهَا مَسْجِدًا وَلَا حَمَّامًا وَلَا حَانُوتًا وَلَا سَبِيلًا إلَّا بِإِذْنِ الشُّرَكَاءِ، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الشَّخْصَ لَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الصُّلْحِ، وَلَوْ دَقَّ فَاهْتَزَّ الْجِدَارُ فَانْكَسَرَ مَا كَانَ مُعَلَّقًا فِيهِ‏:‏ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ‏:‏ فَإِنْ سَقَطَ فِي حَالَةِ الدَّقِّ ضَمِنَ وَإِلَّا فَلَا‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي‏:‏ لَا ضَمَانَ فِي الْحَالَيْنِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ أَخَّرَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ‏:‏ فَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ، عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ وَالْأَصَحُّ إلَخْ؛ كَانَ أَوْلَى‏.‏

المتن‏:‏

وَيَجُوزُ إحْيَاءُ مَوَاتِ الْحَرَمِ، دُونَ عَرَفَاتٍ فِي الْأَصَحِّ قُلْت‏:‏ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى كَعَرَفَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيَجُوزُ إحْيَاءُ مَوَاتِ الْحَرَمِ‏)‏ كَمَا يُمَلَّكُ عَامِرُهُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ‏(‏دُونَ عَرَفَاتٍ‏)‏ فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهَا ‏(‏فِي الْأَصَحِّ‏)‏ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْحَرَمِ؛ لِتَعَلُّقِ الْوُقُوفِ بِهَا كَالْحُقُوقِ الْعَامَّةِ مِنْ الطُّرُقِ، وَمُصَلَّى الْعِيدِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَمَوَارِدِ الْمَاءِ، وَقَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى بِالْعِمَارَةِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ وَالْخُلْجَانِ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ مَنْعُ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إنْ ضَيَّقَ امْتَنَعَ، وَإِلَّا فَلَا ‏(‏قُلْت‏:‏ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى كَعَرَفَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ‏)‏ فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُمَا فِي الْأَصَحِّ لِحَقِّ الْمَبِيتِ وَالرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يَضِقْ بِهِ الْمَبِيتُ وَالْمَرْمَى، وَقَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى بِالْبِنَاءِ بِمِنًى وَصَارَ ذَلِكَ لَا يُنْكَرُ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ هَدْمُ مَا فِيهَا مِنْ الْبِنَاءِ وَالْمَنْعُ مِنْ الْبِنَاءِ فِيهَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْقُولٌ، وَأَنَّ خِلَافَ عَرَفَةَ يَجْرِي فِيهِ وَبِهِ صُرِّحَ فِي التَّصْحِيحِ، وَاَلَّذِي فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَحْثِ؛ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي أَرْضِ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ كَعَرَفَاتٍ لِوُجُودِ الْمَعْنَى، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ‏:‏ يَنْبَغِي الْقَطْعُ لِضِيقِهِ بِخِلَافِ عَرَفَاتٍ‏.‏ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ‏:‏ وَالْمُتَّجَهُ الْمَنْعُ مِنْ الْبِنَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلَوْ قُلْنَا بِمَا رَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ اسْتِحْبَابِ الْمَبِيتِ بِهَا لِكَوْنِهِ مَطْلُوبًا حِينَئِذٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُحَصَّبُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَجِيجِ إذَا نَفَرُوا أَنْ يَبِيتُوا بِهِ‏.‏ قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ‏:‏ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَمَنْ أَحْيَا شَيْئًا مِنْهُ مَلَكَهُ ا هـ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ‏.‏

المتن‏:‏

وَيَخْتَلِفُ الْإِحْيَاءُ بِحَسَبِ الْغَرَضِ فَإِنْ أَرَادَ مَسْكَنًا اشْتَرَطَ تَحْوِيطَ الْبُقْعَةِ وَسَقْفَ بَعْضِهَا وَتَعْلِيقَ بَابٍ، وَفِي الْبَابِ وَجْهٌ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيَخْتَلِفُ الْإِحْيَاءُ بِحَسَبِ الْغَرَضِ‏)‏ وَالرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَطْلَقَهُ وَلَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَيْهِ كَالْقَبْضِ وَالْحِرْزِ فِي السَّرِقَةِ وَهُوَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، وَالضَّابِطُ التَّهْيِئَةُ لِلْمَقْصُودِ ‏(‏فَإِنْ أَرَادَ‏)‏ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ ‏(‏مَسْكَنًا اشْتَرَطَ‏)‏ فِيهِ لِحُصُولِهِ ‏(‏تَحْوِيطَ الْبُقْعَةِ‏)‏ بِآجُرٍّ أَوْ لَبِنٍ أَوْ قَصَبٍ بِحَسَبِ عَادَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ الِاكْتِفَاءُ بِالتَّحْوِيطِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ، وَنُصَّ فِي الْأُمِّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْبِنَاءِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا فِي التَّنْبِيهِ وَغَيْرِهِ ‏(‏وَ‏)‏ اشْتَرَطَ أَيْضًا ‏(‏سَقْفَ بَعْضِهَا‏)‏ لِيَتَهَيَّأَ لِلسُّكْنَى، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ‏(‏وَتَعْلِيقَ‏)‏ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ‏:‏ أَيْ نَصْبَ ‏(‏بَابٍ‏)‏؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الْمَنَازِلِ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَبْوَابٌ، وَمَا لَا بَابَ لَهُ لَا يُتَّخَذُ مَسْكَنًا‏.‏ ‏(‏وَفِي‏)‏ تَعْلِيقِ ‏(‏الْبَابِ وَجْهٌ‏)‏ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّ فَقْدَهُ لَا يَمْنَعُ السُّكْنَى وَإِنَّمَا يُنْصَبُ لِحِفْظِ الْمَتَاعِ، وَلَوْ قَالَ‏:‏ وَفِيهِمَا وَجْهٌ كَانَ أَوْلَى، فَإِنَّ فِي السَّقْفِ أَيْضًا وَجْهَهُ كَمَا مَرَّ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّ السُّكْنَى لَا تُشْتَرَطُ فِي إحْيَاءِ مَا ذُكِرَ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ‏.‏

المتن‏:‏

أَوْ زَرِيبَةَ دَوَابَّ فَتَحْوِيطٌ لَا سَقْفٌ، وَفِي الْبَابِ الْخِلَافُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏أَوْ‏)‏ أَرَادَ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ ‏(‏زَرِيبَةَ دَوَابَّ‏)‏ أَوْ نَحْوَهَا كَحَظِيرَةٍ لِجَمْعِ ثِمَارٍ وَغَلَّاتٍ وَغَيْرِهَا ‏(‏فَتَحْوِيطٌ‏)‏ بِالْبِنَاءِ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فَلَا يَكْفِي نَصْبُ سَعَفٍ وَأَحْجَارٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَازَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَالْمُتَمَلِّكُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ عَادَةً ‏(‏لَا سَقْفٌ‏)‏، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي إحْيَاءِ الزَّرِيبَةِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهَا عَدَمُهُ، وَلَوْ حَوَّطَ بِبِنَاءٍ فِي طَرَفٍ، وَاقْتَصَرَ فِي الثَّانِي عَلَى نَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ سَعَفٍ‏.‏ قَالَ الْقَاضِي‏:‏ كَفَى، وَخَالَفَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ، وَالْأَوْجَهُ الْأَوَّلُ، ‏(‏وَفِي‏)‏ نَصْبِ ‏(‏الْبَابِ الْخِلَافُ‏)‏ السَّابِقُ فِي الْمَسْكَنِ‏.‏ وَلَوْ حَفَرَ قَبْرًا فِي مَوَاتٍ كَانَ إحْيَاءً لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ وَمَلَكَهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ، كَمَا لَوْ بَنَى فِيهَا وَلَمْ يَسْكُنْ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَفَرَ قَبْرًا فِي أَرْضِ مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِ؛ إذْ السَّبْقُ فِيهَا بِالدَّفْنِ لَا بِالْحَفْرِ‏.‏

المتن‏:‏

أَوْ مَزْرَعَةً فَجَمْعُ التُّرَابِ حَوْلَهَا، وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ وَتَرْتِيبُ مَاءٍ لَهَا إنْ لَمْ يَكْفِهَا الْمَطَرُ، الْمُعْتَادُ، لَا الزِّرَاعَةُ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏أَوْ‏)‏ أَرَادَ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ ‏(‏مَزْرَعَةً‏)‏ بِفَتْحِ الرَّاءِ أَفْصَحُ مِنْ ضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ‏(‏فَجَمْعُ التُّرَابِ‏)‏ وَنَحْوِهِ كَحَجَرٍ وَشَوْكٍ ‏(‏حَوْلَهَا‏)‏ يُشْتَرَطُ فِي إحْيَائِهَا لِيَنْفَصِلَ الْمُحْيِي عَنْ غَيْرِهِ لِجِدَارِ الدَّارِ وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحْوِيطِ؛ لِأَنَّهُ الْعُرْفُ ‏(‏وَتَسْوِيَةُ الْأَرْضِ‏)‏ بِطَمِّ الْمُنْخَفِضِ وَكَسْحِ الْمُسْتَعْلِي وَحَرْثِهَا إنْ لَمْ تُزْرَعْ إلَّا بِهِ وَتَلْيِينِ تُرَابِهَا وَلَرُبَّمَا يُسَاقُ إلَيْهَا لِتَتَهَيَّأَ لِلزِّرَاعَةِ ‏(‏وَتَرْتِيبُ مَاءٍ لَهَا‏)‏ بِشَقِّ سَاقِيَةٍ مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ قَنَاةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَفْهَمَ تَعْبِيرُهُ بِتَرْتِيبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ السَّقْيُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِذَا حَفَرَ طَرِيقَهُ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا إجْرَاؤُهُ؛ كَفَى وَإِنْ لَمْ يَجْرِ، فَإِنْ هَيَّأَهُ وَلَمْ يَحْفِرْ طَرِيقَهُ كَفَى أَيْضًا فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ، وَرَجَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ، هَذَا ‏(‏إنْ لَمْ يَكْفِهَا الْمَطَرُ الْمُعْتَادُ‏)‏ فَإِنْ كَفَاهَا لَمْ يَحْتَجْ لِتَرْتِيبِ الْمَاءِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ تَرْتِيبِ الْمَاءِ صُورَتَانِ‏:‏ إحْدَاهُمَا أَرَاضِي الْجِبَالِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ سَوْقُ الْمَاءِ إلَيْهَا، وَلَا يَكْفِيهَا الْمَطَرُ الْمُعْتَادُ فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْحِرَاثَةِ، وَجَمْعُ التُّرَابِ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ اقْتَضَى كَلَامُ الرَّافِعِيِّ تَرْجِيحَهُ، وَنَقَلَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ عَنْ سَائِرِ الْأَصْحَابِ‏.‏ الثَّانِيَةُ‏:‏ أَرَاضِي الْبَطَائِحِ، وَهِيَ بِنَاحِيَةِ الْعِرَاقِ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ، فَالشَّرْطُ فِي إحْيَائِهَا حَبْسُ الْمَاءِ عَنْهَا عَكْسُ غَيْرِهَا‏.‏ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَ ‏(‏لَا‏)‏ يُشْتَرَطُ فِي إحْيَائِهَا ‏(‏الزِّرَاعَةُ فِي الْأَصَحِّ‏)‏؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْإِحْيَاءِ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي إحْيَاءِ الدَّارِ سُكْنَاهَا، وَالثَّانِي‏:‏ يُشْتَرَطُ؛ إذْ الدَّارُ لَا تَصِيرُ مُحْيَاةً إلَّا إذَا جُعِلَ فِيهَا عَيْنُ مَالِ الْمُحْيِي، فَكَذَا الْمَزْرَعَةُ وَمَا يُبْذَرُ فِيهَا، يُقَالُ لَهُ‏:‏ زَرِيعَةٌ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَجَمْعُهَا زَرَائِعُ، وَأَمَّا الْحَصَادُ فَلَا يُشْتَرَطُ جَزْمًا‏.‏

المتن‏:‏

أَوْ بُسْتَانًا فَجَمْعُ التُّرَابِ، وَالتَّحْوِيطُ حَيْثُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ وَتَهْيِئَةُ مَاءٍ، وَيُشْتَرَطُ الْغَرْسُ عَلَى الْمَذْهَبِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

غَرْسُ مَا يُسَمَّى بِهِ بُسْتَانًا وَيُبْعِدُ الِاكْتِفَاءَ بِغَرْسِ شَجَرَةٍ أَوْ شَجَرَاتٍ فِي أَرْضٍ وَاسِعَةٍ ‏(‏أَوْ‏)‏ أَرَادَ إحْيَاءَ الْمَوَاتِ ‏(‏بُسْتَانًا فَجَمْعُ التُّرَابِ‏)‏ يُشْتَرَطُ حَوْلَ الْأَرْضِ كَالْمَزْرَعَةِ، وَحُكْمُ الْكَرْمِ حُكْمُ الْبُسْتَانِ ‏(‏وَالتَّحْوِيطُ حَيْثُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ‏)‏ عَمَلًا بِهَا، وَإِنْ جَرَتْ بِتَحْوِيطٍ بِبِنَاءٍ اشْتَرَطَ، أَوْ بِقَصَبٍ أَوْ شَوْكٍ؛ كَفَى أَوْ اكْتَفَتْ بِجَمْعِ تُرَابٍ كَفَى، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّحْوِيطِ وَجَمْعِ التُّرَابِ‏.‏ وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ تَقْتَضِي اشْتِرَاطَ جَمْعِ التُّرَابِ مَعَ التَّحْوِيطِ، وَلَيْسَ مُرَادًا؛ إذْ لَا مَعْنَى لَهُ، فَلَوْ قُيِّدَ التُّرَابُ بِحَالَةِ عَدَمِ التَّحْوِيطِ كَانَ أَوْلَى، وَعِبَارَتُهُ تُوهِمُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ إنْ لَمْ يُعْتَدَّ، وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحَيْنِ‏:‏ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْوِيطِ وَالرُّجُوعِ فِيمَا يُحَوِّطُ بِهِ إلَى الْعَادَةِ‏.‏ ‏(‏وَتَهْيِئَةُ مَاءٍ‏)‏ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْمَزْرَعَةِ‏.‏ ‏(‏وَيُشْتَرَطُ‏)‏ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ بُسْتَانًا ‏(‏الْغَرْسُ عَلَى الْمَذْهَبِ‏)‏ وَقِيلَ‏:‏ لَا يُشْتَرَطُ كَالزَّرْعِ فِي الْمَزْرَعَةِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ اسْمَ الْمَزْرَعَةِ يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ الزَّرْعِ بِخِلَافِ الْبُسْتَانِ قَبْلَ الْغَرْسِ؛ وَلِأَنَّ الْغَرْسَ لِلدَّوَامِ فَالْتَحَقَ بِبِنَاءِ الدَّارِ بِخِلَافِ الزَّرْعِ، وَمَنْ شَرَطَ الزَّرْعَ فِي الْمَزْرَعَةِ شَرَطَ الْغَرْسَ فِي الْبُسْتَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَهَذِهِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ قَاطِعَةٌ بِالِاشْتِرَاطِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَدْ يُفْهِمُ كَلَامُهُ الِاكْتِفَاءَ بِغَرْسِ الْبَعْضِ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْبَسِيطِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ غَرْسُ مَا يُسَمَّى بِهِ بُسْتَانًا، وَيُبْعِدُ الِاكْتِفَاءَ بِغَرْسِ شَجَرَةٍ أَوْ شَجَرَاتٍ فِي أَرْضٍ وَاسِعَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُثْمِرَ الْغِرَاسُ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ نَصْبِ الْبَابِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ صَرَّحَ الْحَاوِي الصَّغِيرُ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ بِاشْتِرَاطِهِ‏.‏ وَيُشْتَرَطُ فِي إحْيَاءِ الْبِئْرِ خُرُوجُ الْمَاءِ وَطَيُّ الْبِئْرِ الرِّخْوَةِ بِخِلَافِ الصُّلْبَةِ، وَفِي إحْيَاءِ بِئْرِ الْقَنَاةِ خُرُوجُ الْمَاءِ وَجَرَيَانُهُ، وَلَوْ حَفَرَ نَهْرًا مُمْتَدًّا إلَى النَّهْرِ الْقَدِيمِ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ لِيَجْرِيَ فِيهِ الْمَاءُ مَلَكَهُ وَلَوْ لَمْ يُجْرِهِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ السُّكْنَى فِي إحْيَاءِ الْمَسْكَنِ‏.‏

المتن‏:‏

وَمَنْ شَرَعَ فِي عَمَلِ إحْيَاءٍ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَمَنْ شَرَعَ فِي عَمَلِ إحْيَاءٍ‏)‏ لِنَوْعٍ فَغَيَّرَهُ لِنَوْعٍ آخَرَ مَلَكَهُ بِمَا يُحْيِي بِهِ ذَلِكَ النَّوْعَ كَأَنْ شَرَعَ فِي عَمَلِ بُسْتَانٍ ثُمَّ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً؛ مَلَكَهُ بِمَا تُمْلَكُ بِهِ الْمَزْرَعَةُ، وَكَلَامُ ابْنِ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، لَا عَلَى مَا حَمَلَهُ شَيْخُنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ حَوَّطَ الْبُقْعَةَ مَلَكَهَا وَإِنْ قَصَدَ الْمَسْكَنَ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا تُمْلَكُ بِهِ الزَّرِيبَةُ لَوْ قَصَدَهَا، وَاعْتَرَضَهُ بِأَنَّهُ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْأَصْحَابِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَمْ يُتِمَّهُ أَوْ أَعْلَمَ عَلَى بُقْعَةٍ بِنَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ غَرَزَ خَشَبًا فَمُتَحَجِّرٌ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَأَنَّهُ لَوْ أَحْيَاهُ آخَرُ مَلَكَهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَلَوْ شَرَعَ فِي عَمَلِ إحْيَاءٍ ‏(‏وَلَمْ يُتِمَّهُ‏)‏ كَأَنْ حَفَرَ أَسَاسًا أَوْ جَمَعَ تُرَابًا ‏(‏أَوْ أَعْلَمَ‏)‏ عَطْفٌ عَلَى شَرَعَ‏:‏ أَيْ جَعَلَ لَهُ عَلَامَةَ الْعِمَارَةِ ‏(‏عَلَى بُقْعَةٍ بِنَصْبِ أَحْجَارٍ أَوْ غَرَزَ خَشَبًا‏)‏ فِيهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَأَنْ خَطَّ خَطًّا أَوْ جَمَعَ تُرَابًا حَوْلَهَا ‏(‏فَمُتَحَجِّرٌ‏)‏ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ مَنَعَ غَيْرَهُ مِنْهُ ‏(‏وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ‏)‏ مِنْ غَيْرِهِ‏:‏ يَعْنِي مُسْتَحِقًّا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد ‏{‏مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ‏}‏ وَلِأَنَّ الْإِحْيَاءَ يُفِيدُ الْمِلْكَ، فَلْيُفِدْ الشُّرُوعُ فِيهِ الِامْتِنَاعَ كَالِاسْتِيَامِ مَعَ الشِّرَاءِ، وَهَذِهِ الْأَحَقِّيَّةُ أَحَقِّيَّةُ اخْتِصَاصٍ لَا مِلْكٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْإِحْيَاءُ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَهَا شَرْطَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهِ، فَإِنْ خَالَفَ كَانَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُحْيِيَ مَا زَادَ عَلَى كِفَايَتِهِ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ بِحَجْرِهِ أَصْلًا‏.‏ الثَّانِي‏:‏ الْقُدْرَةُ عَلَى تَهْيِئَةِ الْإِكْمَالِ‏.‏ فَلَوْ تَحَجَّرَ مَا يَعْجِزُ عَنْ إحْيَائِهِ؛ كَانَ لِغَيْرِهِ إحْيَاءُ الزَّائِدِ كَمَا مَرَّ‏.‏ وَلَمَّا كَانَتْ أَحَقِّيَّةُ الْمُتَحَجِّرِ مَا يَحْجُرُهُ قَدْ تُوهِمُ أَحَقِّيَّةَ الْمِلْكِ اسْتَدْرَكَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ‏(‏لَكِنْ الْأَصَحُّ‏)‏ الْمَنْصُوصُ ‏(‏أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ‏)‏ أَيْ أَحَقِّيَّةُ اخْتِصَاصِ الْمُتَحَجِّرِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، وَلَا هِبَتُهُ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ خِلَافًا لِلدَّارِمِيِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ وَلَكِنْ لَهُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ، وَإِيثَارُهُ بِهِ كَإِيثَارِهِ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَيَصِيرُ الثَّانِي أَحَقَّ بِهِ وَيُورَثُ عَنْهُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَكَأَنَّهُ يَتْبَعُ حَقَّ الِاخْتِصَاصِ كَبَيْعِ عُلُوِّ الْبَيْتِ لِلْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى دُونَ أَسْفَلِهِ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ مَا اسْتَدْرَكَهُ الْمُصَنِّفُ مُسْتَدْرَكٌ كَمَا قِيلَ، فَإِنَّ عَدَمَ الْبَيْعِ مُنَاسِبٌ لِعَدَمِ الْمِلْكِ الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْأَحَقِّيَّةِ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَقُّ أَعَمُّ فَيُصَدَّقُ بِالْأَحَقِّيَّةِ مَعَ الْمِلْكِ فَيَقْتَضِي صِحَّةَ الْبَيْعِ، فَلِذَلِكَ دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ لَكِنَّ إلَخْ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَالْعَجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ لِمَنْعِ الْبَيْعِ بِحَقِّ الشُّفْعَةِ مَعَ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ يُخَالِفُ فِيهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَهَلْ يَجْرِي خِلَافُهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالرُّبُطِ وَنَحْوِهَا‏؟‏ الظَّاهِرُ الْمَنْعُ فَيَمْتَنِعُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا قَطْعًا؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ وَلَا مَنْفَعَةَ كَمَا قَطَعُوا بِهِ فِي امْتِنَاعِ الْعِوَضِ عَلَى حَقِّ الْقَسَمِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النُّزُولُ عَنْ الْوَظَائِفِ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا لَا الْمَنْفَعَةَ ا هـ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ الْأَصَحُّ ‏(‏أَنَّهُ لَوْ أَحْيَاهُ‏)‏ شَخْصٌ ‏(‏آخَرُ مَلَكَهُ‏)‏ وَإِنْ عَصَى بِذَلِكَ كَمَا لَوْ دَخَلَ فِي سَوْمِ أَخِيهِ وَاشْتَرَى‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا يَمْلِكُهُ لِئَلَّا يُبْطِلَ حَقَّ غَيْرِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ يُعْرِضْ عَنْ الْعِمَارَةِ، فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهَا مَلَكَهُ الْمُحْيِي قَطْعًا‏.‏ قَالَ الرَّافِعِيُّ‏:‏ وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَبِيهٌ بِمَا إذَا عَشَّشَ الطَّائِرُ فِي مِلْكِهِ وَأَخَذَ الْفَرْخَ غَيْرُهُ هَلْ يَمْلِكُهُ، وَكَذَا لَوْ تَوَحَّلَ طَيْرٌ فِي أَرْضِهِ أَوْ وَقَعَ الثَّلْجُ فِيهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ ا هـ وَقَدْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ اضْطِرَابٌ، وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْوَلِيمَةِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ طَالَتْ مُدَّةُ التَّحَجُّرِ قَالَ لَهُ السُّلْطَانُ أَحْيِ أَوْ اُتْرُكْ، فَإِنْ اسْتَمْهَلَ أُمْهِلَ مُدَّةً قَرِيبَةً‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ طَالَتْ مُدَّةُ التَّحَجُّرِ‏)‏ وَلَمْ يُحْيِ، وَيُرْجَعُ فِي طُولِهَا لِلْعُرْفِ ‏(‏قَالَ لَهُ السُّلْطَانُ‏)‏ أَوْ نَائِبُهُ‏:‏ ‏(‏أَحْيِ أَوْ اُتْرُكْ‏)‏ مَا تَحَجَّرْتَهُ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ؛ فَمُنِعَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي شَارِعٍ ‏(‏فَإِنْ اسْتَمْهَلَ‏)‏ الْمُتَحَجِّرُ ‏(‏أُمْهِلَ مُدَّةً قَرِيبَةً‏)‏ يَسْتَعِدُّ فِيهَا لِلْعِمَارَةِ، وَتَقْدِيرُهَا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَقِيلَ تُقَدَّرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقِيلَ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُعَمِّرْ بَطَلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ إلَى سُلْطَانٍ، وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بِلَا مُهْلَةٍ، وَهُوَ مَا بَحَثَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، لَكِنَّهُ خِلَافُ مَنْقُولِهِ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّحَجُّرَ ذَرِيعَةٌ إلَى الْعِمَارَةِ، وَهِيَ لَا تُؤَخَّرُ عَنْهُ إلَّا بِقَدْرِ أَسْبَابِهَا، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَحَجُّرُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَهْيِئَةِ الْأَسْبَابِ كَمَنْ تَحَجَّرَ لِيَعْمُرَ فِي قَابِلٍ، وَكَفَقِيرٍ تَحَجَّرَ إذَا قَدَرَ، فَوَجَبَ إذَا أَخَّرَ وَطَالَ الزَّمَانُ أَنْ يَعُودَ مَوَاتًا كَمَا كَانَ‏.‏

وَقَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ يَنْبَغِي إذَا عَرَفَ الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ فِي تَطْوِيلِ الْمُدَّةِ انْتَزَعَهَا مِنْهُ فِي الْحَالِ، وَكَذَا إنْ لَمْ تَطُلْ الْمُدَّةُ، وَعُلِمَ أَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْ الْعِمَارَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي طَلَبِ الْإِمْهَالِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ قَضِيَّةِ كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا، فَإِنَّهُمَا قَالَا‏:‏ فَإِنْ ذَكَرَ عُذْرًا وَاسْتَمْهَلَ؛ أُمْهِلَ مُدَّةً قَرِيبَةً ا هـ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ السَّابِقِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ مَوَاتًا صَارَ أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ كَالْمُتَحَجِّرِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ أَقْطَعَهُ الْإِمَامُ مَوَاتًا‏)‏ لَا لِتَمْلِيكِ رَقَبَتِهِ ‏(‏صَارَ‏)‏ بِمُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ ‏(‏أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ‏)‏ مِنْ غَيْرِهِ، يَعْنِي مُسْتَحِقًّا لَهُ دُونَ غَيْرِهِ ‏(‏كَالْمُتَحَجِّرِ‏)‏ لِتَظْهَرَ فَائِدَةُ الْإِقْطَاعِ، وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ‏:‏ صَارَ كَالْمُتَحَجِّرِ لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَشْمَلَ، لِيَأْتِيَ فِيهِ سَائِرُ أَحْكَامِ التَّحَجُّرِ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى هُنَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ مَا أَقْطَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَمْلِكُهُ الْغَيْرُ بِإِحْيَائِهِ، قِيَاسًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ مَا حَمَاهُ‏.‏ أَمَّا إذَا أَقْطَعَهُ لِتَمْلِيكِ رَقَبَتِهِ؛ فَيَمْلِكُهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَجْمُوعِهِ فِي بَابِ الرِّكَازِ‏.‏ وَالْأَصْلُ فِي الْإِقْطَاعِ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ ‏{‏أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ‏}‏ وَخَبَرُ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ ‏{‏أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ‏}‏‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

هَلْ يَلْحَقُ الْمُنْدَرِسُ الضَّائِعَ بِالْمَوَاتِ فِي جَوَازِ الْإِقْطَاعِ‏؟‏ فِيهِ وَجْهَانِ‏:‏ أَصَحُّهُمَا فِي الْبَحْرِ‏:‏ نَعَمْ، بِخِلَافِ الْإِحْيَاءِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُنَافِي مَا مَرَّ مِنْ جَعْلِهِ كَالْمَالِ الضَّائِعِ، أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُشَبَّهَ لَا يُعْطَى حُكْمَ الْمُشَبَّهِ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مُقَيِّدٌ لِذَاكَ‏.‏

وَأَمَّا إقْطَاعُ الْعَامِرِ فَعَلَى قِسْمَيْنِ‏:‏ إقْطَاعُ تَمْلِيكٍ، وَإِقْطَاعُ اسْتِغْلَالٍ، وَالْأَوَّلُ أَنْ يُقْطِعَ الْإِمَامُ مِلْكًا أَحْيَاهُ بِالْأُجَرَاءِ وَالْوُكَلَاءِ، أَوْ اشْتَرَاهُ أَوْ وَكِيلُهُ فِي الذِّمَّةِ فَيَمْلِكُهُ الْمُقْطَعُ بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ، إنْ أُبِّدَ أَوْ أُقِّتَ بِعُمْرِ الْمُقْطَعِ، وَهُوَ الْعُمْرَى، وَيُسَمَّى مَعَاشًا، وَالْأَمْلَاكُ الْمُتَخَلِّفَةُ عَنْ السَّلَاطِينِ الْمَاضِيَةِ بِالْمَوْتِ وَالْقَتْلِ لَيْسَتْ بِمِلْكٍ لِلْإِمَامِ الْقَائِمِ، بَلْ لِوَرَثَتِهِمْ إنْ تَبَيَّنُوا، وَإِلَّا فَكَالْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ، وَلَا يَجُوزُ إقْطَاعُ أَرَاضِي الْفَيْءِ تَمْلِيكًا، وَلَا إقْطَاعُ الْأَرَاضِي الَّتِي اصْطَفَاهَا الْأَئِمَّةُ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ فُتُوحِ الْبِلَادِ‏:‏ إمَّا بِحَقِّ الْخُمْسِ، وَإِمَّا بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ، وَلَا إقْطَاعُ أَرَاضِي الْخَرَاجِ صُلْحًا‏.‏ وَفِي إقْطَاعِ أَرَاضِي مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا وَارِثَ لَهُ وَجْهَانِ‏:‏ الظَّاهِرُ مِنْهُمَا الْمَنْعُ، وَيَجُوزُ إقْطَاعُ الْكُلِّ مَعَاشًا‏.‏ الثَّانِي‏:‏ أَنْ يُقْطِعَ غَلَّةَ أَرَاضِي الْخَرَاجِ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَلَا أَحْسِبُ فِي جَوَازِ الْإِقْطَاعِ لِلِاسْتِغْلَالِ خِلَافًا إذَا وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ قَدْرًا يَلِيقُ بِالْحَالِ مِنْ غَيْرِ مُجَازَفَةٍ ا هـ‏.‏

أَيْ فَيَمْلِكُهَا الْمُقْطَعُ لَهُ بِالْقَبْضِ، وَيَخْتَصُّ بِهَا مَنْ قِبَلُهُ، فَإِنْ أَقْطَعَهَا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ بَطَلَ، وَكَذَا مِنْ أَهْلِ الْمَصَالِحِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُعْطَوْا مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ شَيْئًا، لَكِنْ بِشَرْطَيْنِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ قَدْ وَجَبَ بِسَبَبِ اسْتِبَاحَتِهِ كَالتَّأْذِينِ وَالْإِمَامَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَّ الْمَالُ وَوَجَبَ لِتَصِحَّ الْحَوَالَةُ بِهِ، وَيَخْرُجُ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ عَنْ حُكْمِ الْإِقْطَاعِ‏.‏ وَإِنْ أَقْطَعَهَا مِنْ الْقُضَاةِ أَوْ كُتَّابِ الدَّوَاوِينِ جَازَ سَنَةً وَاحِدَةً، وَهَلْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا‏؟‏ وَجْهَانِ‏:‏ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ إنْ كَانَ جِزْيَةً، وَالْجَوَازُ إنْ كَانَ أُجْرَةً، وَيَجُوزُ إقْطَاعُ الْجُنْدِيِّ مِنْ أَرْضٍ عَامِرَةٍ لِلِاسْتِغْلَالِ بِحَيْثُ تَكُونُ مَنَافِعُهَا لَهُ مَا لَمْ يَنْزِعْهَا الْإِمَامُ، وَقَضِيَّةُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي فَتَاوِيهِ‏:‏ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إجَارَتُهَا أَنَّهُ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهَا‏.‏ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ‏:‏ مَا يَحْصُلُ لِلْجُنْدِيِّ مِنْ الْفَلَّاحِ مِنْ مَغَلٍ وَغَيْرِهِ فَحَلَالٌ بِطَرِيقِهِ، وَمَا يُعْتَادُ أَخْذُهُ مِنْ رُسُومٍ وَمَظَالِمَ فَحَرَامٌ، وَالْمُقَاسَمَةُ مَعَ الْفَلَّاحِ، حَيْثُ الْبَذْرُ مِنْهُ، مَنَعَهَا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَغَيْرُهُ، وَحِينَئِذٍ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْفَلَّاحِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ، وَإِذَا وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَى أَخْذِ الْمُقَاسَمَةِ عِوَضًا مِنْ أُجْرَةِ الْأَرْضِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، فَحَقَّ عَلَى الْجُنْدِيِّ الْمُتَوَرِّعِ أَنْ يُرْضِيَ الْفَلَّاحَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَأْخُذَ مِنْهُ إلَّا مَا يُقَابِلُ أُجْرَةَ الْأَرْضِ‏.‏ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْجُنْدِيِّ فَجَمِيعُ الْمُغَلِّ لَهُ، وَلِلْفَلَّاحِ أُجْرَةُ مِثْلِ مَا عَمِلَ، فَإِنْ رَضِيَ الْفَلَّاحُ عَنْ أُجْرَتِهِ بِالْمُقَاسَمَةِ؛ جَازَ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يُقْطِعُ إلَّا قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَقَدْرًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَذَا التَّحَجُّرُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَا يُقْطِعُ‏)‏ الْإِمَامُ ‏(‏إلَّا‏)‏ شَخْصًا ‏(‏قَادِرًا عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَ‏)‏ يَكُونُ مَا يُقْطِعُهُ لَهُ ‏(‏قَدْرًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ‏)‏ لَوْ أَرَادَ إحْيَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

الْمُرَادُ بِالْقُدْرَةِ مَا يَعُمُّ الْحِسِّيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ، فَلَا يُقْطِعُ الذِّمِّيَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ‏(‏وَكَذَا التَّحَجُّرُ‏)‏، فَلَا يَتَحَجَّرُ الشَّخْصُ إلَّا أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْإِحْيَاءِ، وَقَدْرًا يَقْدِرُ عَلَى إحْيَائِهِ، فَإِنْ زَادَ، فَالْأَقْوَى فِي الرَّوْضَةِ‏:‏ أَنَّ لِغَيْرِهِ إحْيَاءَ الزَّائِدِ، كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ بُقْعَةَ مَوَاتٍ لِرَعْيِ نَعَمِ جِزْيَةٍ وَصَدَقَةٍ وَضَالَّةٍ وَضَعِيفٍ عَنْ النُّجْعَةِ، وَأَنَّ لَهُ نَقْضَ مَا حَمَاهُ لِلْحَاجَةِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

وَيَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَوَاشِي عِوَضًا عَنْ الرَّعْيِ فِي الْحِمَى أَوْ الْمَوَاتِ ‏(‏وَالْأَظْهَرُ أَنَّ لِلْإِمَامِ‏)‏ أَوْ نَائِبِهِ ‏(‏أَنْ يَحْمِيَ‏)‏ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ‏:‏ أَيْ يَمْنَعَ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏بُقْعَةَ مَوَاتٍ لِرَعْيِ نَعَمِ جِزْيَةٍ‏)‏ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ بَدَلًا عَنْ النَّقْدِ الْمَأْخُوذِ فِي الْجِزْيَةِ، وَفِيمَا إذَا قَالَ قَوْمٌ‏:‏ نُؤَدِّي الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ‏(‏وَ‏)‏ لِرَعْيِ نَعَمِ ‏(‏صَدَقَةِ‏)‏ تَطَوُّعٍ ‏(‏وَ‏)‏ لِرَعْيِ نَعَمٍ ‏(‏ضَالَّةٍ‏)‏ وَتُسْتَعْمَلُ الضَّالَّةُ فِي غَيْرِ النَّعَمِ أَيْضًا ‏(‏وَ‏)‏ لِرَعْيِ نَعَمِ شَخْصٍ ‏(‏ضَعِيفٍ عَنْ النُّجْعَةِ‏)‏ بِضَمِّ النُّونِ، وَهِيَ الْإِبْعَادُ فِي طَلَبِ الْمَرْعَى، بِأَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ رَعْيِهَا، بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُمْ بِأَنْ يَكُونَ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ بِحَيْثُ تَكْفِي بَقِيَّتُهُ النَّاسَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏حَمَى النَّقِيعَ بِالنُّونِ، وَقِيلَ بِالْبَاءِ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ‏.‏ وَالثَّانِي الْمَنْعُ لِخَبَرِ ‏{‏لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ‏}‏ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَهْمَلَ الْمُصَنِّفُ خَيْلَ الْمُجَاهِدِينَ، وَهِيَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا؛ إذْ الْحِمَى الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ كَانَ لَهَا‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَيُشْبِهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهَا الظَّهْرَ الَّذِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الْغَزْوِ، وَكَانَ الْأَحْسَنُ لِلْمُصَنِّفِ تَقْدِيمَ ضَالَّةٍ أَوْ تَأْخِيرَهَا حَتَّى لَا يَنْقَطِعَ النَّظِيرُ عَنْ النَّظِيرِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَوَاشِي عِوَضًا عَنْ الرَّعْيِ فِي الْحِمَى أَوْ الْمَوَاتِ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمِيَ الْمَاءَ الْعِدَّ‏:‏ أَيْ الْعَذْبَ لِشُرْبِ خَيْلِ الْجِهَادِ، وَإِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَالْجِزْيَةِ وَغَيْرِهِمَا‏.‏ ‏(‏وَ‏)‏ الْأَظْهَرُ ‏(‏أَنَّ لَهُ‏)‏ أَيْ الْإِمَامِ ‏(‏نَقْضَ‏)‏ أَيْ رَفْعَ ‏(‏مَا حَمَاهُ‏)‏ وَكَذَا مَا حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنْ ظَهَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي نَقْضِهِ، وَإِنْ أَوْهَمَتْ عِبَارَتُهُ اخْتِصَاصَ النَّقْضِ بِالْحَامِي فَإِنَّهُ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ، وَقَوْلُهُ ‏(‏لِلْحَاجَةِ‏)‏ إلَيْهِ‏:‏ أَيْ عِنْدَهَا كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ بِأَنْ ظَهَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ بَعْدَ ظُهُورِهَا فِي الْحِمَى، وَلِلْحَاجَةِ مُتَعَلَّقٌ بِنَقْضٍ لَا بِمَا حَمَاهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ نَقْضِ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ‏.‏ الثَّانِي‏:‏ الْمَنْعُ لِتَعَيُّنِهِ لِتِلْكَ الْجِهَةِ كَمَا لَوْ عَيَّنَ بُقْعَةً لِمَسْجِدٍ أَوْ مَقْبَرَةٍ‏.‏ وَعَلَى الْأَوَّلِ‏:‏ لَوْ أَحْيَاهُ مُحْيٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ؛ مَلَكَهُ وَكَانَ الْإِذْنُ مِنْهُ نَقْضًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيبَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى تَصَرُّفِ الْإِمَامِ وَحُكْمِهِ‏.‏ أَمَّا مَا حَمَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ فَلَا يُنْقَضُ وَلَا يُغَيَّرُ بِحَالٍ وَلَوْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ، فَمَنْ زَرَعَ فِيهِ أَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى؛ قُلِعَ، وَحَكَى صَاحِبُ الرَّوْنَقِ قَوْلًا وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا حَمَاهُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ وَهَذَا غَرِيبٌ لَكِنَّهُ مَلِيحٌ فَإِنَّ فِعْلَهُمْ أَعْلَى مِنْ فِعْلِ كُلِّ إمَامٍ بَعْدَهُمْ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يَحْمِي لِنَفْسِهِ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَا يَحْمِي‏)‏ الْإِمَامُ ‏(‏لِنَفْسِهِ‏)‏ قَطْعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ السَّابِقُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَوْلُ الْمَرْجُوحُ، وَخَرَجَ بِالْإِمَامِ وَنَائِبِهِ غَيْرُهُمَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُدْخِلَ مَوَاشِيَهُ مَا حَمَاهُ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَقْوِيَاءِ، وَيُنْدَبُ لَهُ وَلِنَائِبِهِ أَنْ يَنْصِبَ أَمِينًا يُدْخِلُ فِيهِ دَوَابَّ الضُّعَفَاءِ، وَيَمْنَعُ مِنْهُ إدْخَالَ دَوَابِّ الْأَقْوِيَاءِ، فَإِنْ رَعَاهُ قَوِيٌّ مَنَعَ مِنْهُ وَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا‏.‏ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ‏:‏ وَلَيْسَ هَذَا مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَجِّ‏:‏ أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ النَّقِيعِ ضَمِنَهُ، عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ مَا هُنَا فِي الرَّعْيِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا أُحْمِيَ لَهُ، وَمَا هُنَاكَ فِي الْإِتْلَافِ بِغَيْرِهِ، وَلَا يُعَزَّرُ أَيْضًا‏.‏ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ‏:‏ وَلَعَلَّهُ فِيمَنْ جَهِلَ التَّحْرِيمَ وَإِلَّا فَلَا رَيْبَ فِي التَّعْزِيرِ‏.‏ ا هـ‏.‏

وَلَعَلَّهُمْ سَامَحُوا فِي ذَلِكَ كَمَا سَامَحُوا فِي الْغُرْمِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فِي حُكْمِ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ‏]‏

المتن‏:‏

مَنْفَعَةُ الشَّارِعِ الْمُرُورُ، وَيَجُوزُ الْجُلُوسُ بِهِ لِاسْتِرَاحَةٍ وَمُعَامَلَةٍ وَنَحْوِهِمَا إذَا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمَارَّةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ

الشَّرْحُ‏:‏

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ ‏(‏مَنْفَعَةُ الشَّارِعِ‏)‏ الْأَصْلِيَّةُ ‏(‏الْمُرُورُ‏)‏ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الصُّلْحِ، وَعَبَّرَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ عَنْ الشَّارِعِ بِالطَّرِيقِ النَّافِذِ، وَذُكِرَتْ هُنَا تَوْطِئَةً لِمَا بَعْدَهَا، وَخَرَجَ بِالْأَصْلِيَّةِ الْمَنْفَعَةُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ ‏(‏وَيَجُوزُ الْجُلُوسُ بِهِ‏)‏ وَلَوْ فِي وَسَطِهِ ‏(‏لِاسْتِرَاحَةٍ وَمُعَامَلَةٍ وَنَحْوِهِمَا‏)‏ كَانْتِظَارِ رَفِيقٍ وَسُؤَالٍ، وَلَهُ الْوُقُوفُ فِيهِ أَيْضًا‏.‏ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ‏:‏ وَلِلْإِمَامِ مُطَالَبَةُ الْوَاقِفِ بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَوْ الِانْصِرَافِ، هَذَا كُلُّهُ ‏(‏إذَا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمَارَّةِ‏)‏ فِيهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ‏}‏ ‏(‏وَلَا يُشْتَرَطُ‏)‏ لِلْجُلُوسِ فِي الشَّارِعِ ‏(‏إذْنُ الْإِمَامِ‏)‏ لِإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

شَمَلَ إطْلَاقُهُ الذِّمِّيَّ وَفِي ثُبُوتِ هَذَا الِارْتِفَاقِ لَهُ وَجْهَانِ‏:‏ أَوْجَهُهُمَا كَمَا قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَتَبِعَهُ السُّبْكِيُّ‏:‏ الثُّبُوتُ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ الْإِمَامُ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِمَّنْ يَرْتَفِقُ بِالْجُلُوسِ فِي الشَّارِعِ وَلَوْ لِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ عِوَضًا قَطْعًا قَالَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ‏.‏ قَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ وَقَدْ رَأَيْنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ وُكَلَاءِ بَيْتِ الْمَالِ مَنْ يَبِيعُ مِنْ الشَّارِعِ مَا يَقُولُ‏:‏ إنَّهُ يَفْضُلُ عَنْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْمِلْكِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بَيْعُ الْمَوَاتِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ‏.‏ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ‏:‏ وَفَاعِلُ ذَلِكَ لَا أَدْرِي بِأَيِّ وَجْهٍ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى‏؟‏‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الرِّحَابُ الْوَاسِعَةُ بَيْن الدُّورِ فِي الْمُدُنِ، فَإِنَّهَا مِنْ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ نَقَلَ فِي الشَّامِلِ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ إقْطَاعِ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَ بُقْعَةً ارْتِفَاقًا لَا بِعِوَضٍ وَلَا تَمْلِيكًا فَيَصِيرُ الْمُقْطَعُ أَحَقَّ بِهِ كَالْمُتَحَجِّرِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهُ بِالْإِحْيَاءِ، وَيَجُوزُ الِارْتِفَاقُ أَيْضًا بِغَيْرِ الشَّارِعِ، كَالصَّحَارِيِ لِنُزُولِ الْمُسَافِرِينَ إنْ لَمْ يَضُرَّ النُّزُولُ بِالْمَارَّةِ‏.‏

وَأَمَّا الِارْتِفَاقُ بِأَفْنِيَةِ الْمَنَازِلِ فِي الْأَمْلَاكِ، فَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَصْحَابِهَا مُنِعُوا مِنْ الْجُلُوسِ فِيهَا إلَّا بِإِذْنِهِمْ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْجُلُوسُ عَلَى عَتَبَةِ الدَّارِ؛ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ مَالِكِهَا، وَلَهُ أَنْ يُقِيمَهُ وَيُجْلِسَ غَيْرَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أُجْرَةٍ عَلَى الْجُلُوسِ فِي فِنَاءِ الدَّارِ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ، وَحُكْمُ فِنَاءِ الْمَسْجِدِ كَفِنَاءِ الدَّارِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَهُ تَظْلِيلُ مَقْعَدِهِ بِبَارِيَّةٍ وَغَيْرِهَا

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَهُ‏)‏ أَيْ الْجَالِسُ فِي الشَّارِعِ ‏(‏تَظْلِيلُ مَقْعَدِهِ‏)‏ أَيْ مَوْضِعِ قُعُودِهِ فِي الشَّارِعِ ‏(‏بِبَارِيَّةٍ‏)‏ بِتَشْدِيدِ التَّحْتَانِيَّةِ كَمَا فِي الدَّقَائِقِ، وَحُكِيَ تَخْفِيفُهَا‏:‏ نَوْعٌ يُنْسَجُ مِنْ قَصَبٍ كَالْحَصِيرِ ‏(‏وَغَيْرِهَا‏)‏ مِمَّا لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، كَثَوْبٍ وَعَبَاءَةٍ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُثَبَّتًا بِبِنَاءٍ؛ لَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ الدَّكَّةِ، وَلَهُ وَضْعُ سَرِيرٍ فِي أَحَدِ احْتِمَالَيْنِ لِصَاحِبِ الْكَافِي، يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ، وَيَخْتَصُّ الْجَالِسُ بِمَكَانِهِ وَمَكَانِ مَتَاعِهِ وَمُعَامِلِيهِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُضَيِّقَ عَلَيْهِ فِي الْمَكَانِ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِهِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ وَاقِفًا بِقُرْبِهِ إنْ مَنَعَ رُؤْيَةَ مَتَاعِهِ، أَوْ وُصُولَ الْمُعَامِلِينَ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَنْ قَعَدَ لِبَيْعِ مِثْلِ مَتَاعِهِ إذَا لَمْ يُزَاحِمْهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ سَبَقَ إلَيْهِ اثْنَانِ أُقْرِعَ، وَقِيلَ يُقَدِّمُ الْإِمَامُ بِرَأْيِهِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ سَبَقَ إلَيْهِ‏)‏ أَيْ مَكَانٍ مِنْ الشَّارِعِ ‏(‏اثْنَانِ‏)‏ وَتَنَازَعَا فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ ‏(‏أُقْرِعَ‏)‏ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْمَزِيَّةِ ‏(‏وَقِيلَ‏:‏ يُقَدِّمُ الْإِمَامُ‏)‏ أَحَدَهُمَا ‏(‏بِرَأْيِهِ‏)‏ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الدَّارِمِيُّ إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ‏.‏ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا، فَالْمُسْلِمُ مُقَدَّمٌ مُطْلَقًا‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ جَلَسَ فِيهِ لِلْمُعَامَلَةِ ثُمَّ فَارَقَهُ تَارِكًا لِلْحِرْفَةِ أَوْ مُنْتَقِلًا إلَى غَيْرِهِ بَطَلَ حَقُّهُ، وَإِنْ فَارَقَهُ لِيَعُودَ لَمْ يَبْطُلْ إلَّا أَنْ تَطُولَ مُفَارَقَتُهُ بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ مُعَامِلُوهُ عَنْهُ وَيَأْلَفُونَ غَيْرَهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ جَلَسَ فِيهِ لِلْمُعَامَلَةِ‏)‏ أَوْ لِلْحِرْفَةِ كَالْخِيَاطَةِ ‏(‏ثُمَّ فَارَقَهُ‏)‏ أَيْ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ ‏(‏تَارِكًا‏)‏ لِلْمُعَامَلَةِ أَوْ ‏(‏لِلْحِرْفَةِ أَوْ مُنْتَقِلًا إلَى غَيْرِهِ؛ بَطَلَ حَقُّهُ‏)‏ بِمُفَارَقَتِهِ؛ لِإِعْرَاضِهِ عَنْهُ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَسَوَاءٌ فِيهِ الْمُقْطَعُ وَغَيْرُهُ فِيمَا أَرَاهُ ‏(‏وَإِنْ فَارَقَهُ‏)‏ وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ ‏(‏لِيَعُودَ‏)‏ إلَيْهِ ‏(‏لَمْ يَبْطُلْ‏)‏ حَقُّهُ مِنْهُ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ ‏{‏إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ‏}‏ وَإِذَا فَارَقَهُ بِاللَّيْلِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مُزَاحَمَتُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَكَذَا الْأَسْوَاقُ الَّتِي تُقَامُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ أَوْ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً إذَا اتَّخَذَ فِيهَا مَقْعَدًا كَانَ أَحَقَّ بِهِ فِي النَّوْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ الْجُلُوسَ فِيهِ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ إلَى أَنْ يَعُودَ؛ جَازَ إنْ كَانَ لِغَيْرِ مُعَامَلَةٍ وَكَذَا لِمُعَامَلَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، ‏(‏إلَّا أَنْ تَطُولَ مُفَارَقَتُهُ‏)‏ لَهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ‏(‏بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ مُعَامِلُوهُ عَنْهُ وَيَأْلَفُونَ‏)‏ فِي مُعَامَلَتِهِمْ ‏(‏غَيْرَهُ‏)‏ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ وَإِنْ تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمُعَيَّنِ أَنْ يُعْرَفَ فَيُعَامَلَ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ أَوْ لَا، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا صَحَّحَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ، وَقِيلَ‏:‏ لَا يَبْطُلُ فِيمَا إذَا جَلَسَ بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّنْبِيهِ وَأَقَرَّهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَصْحِيحِهِ وَجَزَمَ بِهِ فِي نُكَتِهِ، وَخَرَجَ بِجَلَسَ لِمُعَامَلَةٍ، مَا لَوْ جَلَسَ لِاسْتِرَاحَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّهُ بِمُفَارَقَتِهِ‏.‏ وَكَذَا لَوْ كَانَ جَوَّالًا، وَهُوَ مَنْ يَقْعُدُ كُلَّ يَوْمٍ فِي مَوْضِعٍ مِنْ السُّوقِ فَإِنَّ حَقَّهُ يَبْطُلُ بِمُفَارَقَتِهِ‏.‏ وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي الشَّارِعِ لِلْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَ الطَّرِيقَ حَقَّهُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ وَكَفِّ الْأَذَى وَرَدِّ السَّلَامِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَمَا وَرَدَ تَفْسِيرُهُ بِذَلِكَ فِي الْخَبَرِ‏.‏

المتن‏:‏

وَمَنْ أَلِفَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ وَيُقْرِئُ كَالْجَالِسِ فِي شَارِعٍ لِمُعَامَلَةٍ، وَلَوْ جَلَسَ فِيهِ لِصَلَاةٍ لَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِهِ فِي غَيْرِهَا، فَلَوْ فَارَقَهُ لِحَاجَةٍ لِيَعُودَ لَمْ يَبْطُلْ اخْتِصَاصُهُ، فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ إزَارَهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَمَنْ أَلِفَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ‏)‏ النَّاسَ ‏(‏وَيُقْرِئُ‏)‏ الْقُرْآنَ أَوْ الْحَدِيثَ أَوْ الْفِقْهَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَنَحْوٍ وَصَرْفٍ وَلُغَةٍ فَحُكْمُهُ ‏(‏كَالْجَالِسِ فِي‏)‏ مَقْعَدٍ فِي ‏(‏شَارِعٍ لِمُعَامَلَةٍ‏)‏ فِي التَّفْصِيلِ السَّابِقِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

فُهِمَ مِنْ إلْحَاقِ الْمُصَنِّفِ الْمَسْجِدَ بِالشَّارِعِ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إذْنُ الْإِمَامِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ؛ إذْ الْمَسَاجِدُ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ قَيَّدَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بِصِغَارِ الْمَسَاجِدِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَأَمَّا كِبَارُهَا وَالْجَوَامِعُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ إذْنُ الْإِمَامِ إنْ كَانَتْ عَادَةُ الْبَلَدِ الِاسْتِئْذَانَ فِيهِ، وَقَدْ يَخْرُجُ بِقَوْلِهِ يُفْتِي وَيُقْرِئُ جُلُوسُ الطَّالِبِ، لَكِنْ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ أَنَّ مَجْلِسَ الْفَقِيهِ حَالَ تَدْرِيسِ الْمُدَرِّسِ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ، الظَّاهِرُ فِيهِ دَوَامُ الِاخْتِصَاصِ ا هـ‏.‏

وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلْجُلُوسِ فِيهِ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ أَمَّا إذَا كَانَ لَا يُفِيدُ وَلَا يَسْتَفِيدُ فَلَا مَعْنَى لَهُ ‏(‏وَلَوْ جَلَسَ فِيهِ‏)‏ أَيْ الْمَسْجِدِ ‏(‏لِصَلَاةٍ لَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِهِ فِي‏)‏ صَلَاةٍ ‏(‏غَيْرِهَا‏)‏؛ لِأَنَّ لُزُومَ بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِلصَّلَاةِ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بَلْ وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ، وَبِقَاعُ الْمَسْجِدِ لَا تَخْتَلِفُ بِخِلَافِ مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ ثَوَابَ الصَّلَاةِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ لَا يَنْحَصِرُ فِي بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَدْ تَفُوتُهُ فَضِيلَةُ الْقُرْبِ مِنْ الْإِمَامِ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ لَهُ طَرِيقًا إلَى تَحْصِيلِهِ بِالسَّبْقِ الَّذِي طَلَبَهُ الشَّارِعُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الْأَحَقِّيَّةَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ حَتَّى لَوْ اسْتَمَرَّ إلَى وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى فَحَقُّهُ بَاقٍ وَهُوَ كَذَلِكَ وَشَمِلَ مَا لَوْ كَانَ الْجَالِسُ صَبِيًّا وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ، وَيَلْحَقُ بِالصَّلَاةِ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِسَمَاعِ وَعْظٍ أَوْ حَدِيثٍ‏:‏ أَيْ أَوْ قِرَاءَةٍ فِي لَوْحٍ مَثَلًا، وَكَذَا مَنْ يُطَالِعُ مُنْفَرِدًا بِخِلَافِ مَنْ يُطَالِعُ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ‏(‏فَلَوْ فَارَقَهُ‏)‏ قَبْلَ الصَّلَاةِ ‏(‏لِحَاجَةٍ‏)‏ كَإِجَابَةِ دَاعٍ وَرُعَافٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ ‏(‏لِيَعُودَ‏)‏ بَعْد فَرَاغِ حَاجَتِهِ ‏(‏لَمْ يَبْطُلْ اخْتِصَاصُهُ‏)‏ بِهِ ‏(‏فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي الْأَصَحِّ‏)‏ وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالصَّحِيحِ ‏(‏وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ‏)‏ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ‏(‏إزَارَهُ‏)‏ أَوْ نَحْوَهُ كَسَجَّادَةٍ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ الْمَارِّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَبْطُلُ كَغَيْرِهِ مِنْ الصَّلَاةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ الْخِلَافِ إذَا لَمْ تَقُمْ الصَّلَاةُ فِي غَيْبَتِهِ‏.‏ أَمَّا لَوْ أُقِيمَتْ وَاتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ فَالْوَجْهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ سَدُّ الصَّفِّ مَكَانَهُ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ طَرْدُ الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ كَانَ دَخَلَ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا وَخَرَجَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا لِيَعُودَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ لَمْ أَرَ فِيهِ تَصْرِيحًا ا هـ‏.‏

وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيّ‏:‏ يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ حَقِّ السَّبْقِ مَا لَوْ قَعَدَ خَلْفَ الْإِمَامِ وَلَيْسَ أَهْلًا لِلِاسْتِخْلَافِ، أَوْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِالْإِمَامَةِ فَيُؤَخَّرُ وَيُقَدَّمُ الْأَحَقُّ مَوْضِعَهُ لِخَبَرِ ‏{‏لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى‏}‏ مَمْنُوعٌ إذْ الصَّبِيُّ إذَا سَبَقَ إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَا يُؤَخَّرُ‏.‏ مَسْأَلَةٌ‏:‏ وَهِيَ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ‏:‏ لَوْ بَسَطَ شَخْصٌ شَيْئًا فِي مَسْجِدٍ مَثَلًا وَمَضَى أَوْ بُسِطَ لَهُ كَانَ لِغَيْرِهِ تَنْحِيَتُهُ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ، خِلَافًا لِلْمَرْوَزِيِّ، وَلَوْ نَوَى اعْتِكَافَ أَيَّامٍ فِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ لِمَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لَهُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَعَادَ كَانَ أَحَقَّ بِمَوْضِعِهِ، وَخُرُوجُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ نَاسِيًا، كَذَلِكَ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا، وَإِنْ نَوَى اعْتِكَافًا مُطْلَقًا فَهُوَ أَحَقُّ بِمَوْضِعِهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ، وَيُنْدَبُ مَنْعُ مَنْ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ لِمُبَايَعَةٍ وَحِرْفَةٍ؛ إذْ حُرْمَتُهُ تَأْبَى اتِّخَاذَهُ حَانُوتًا، وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ أَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ فِيهِ مَكْرُوهٌ، وَلَا يَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِحَرِيمِ الْمَسْجِدِ إذَا أَضَرَّ بِأَهْلِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْإِذْنُ فِيهِ حِينَئِذٍ وَإِلَّا جَازَ، وَيُنْدَبُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ اسْتِطْرَاقِ حِلَقِ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ فِي الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا تَوْقِيرًا لَهُمْ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ سَبَقَ رَجُلٌ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ رِبَاطٍ مُسَبَّلٍ أَوْ فَقِيهٌ إلَى مَدْرَسَةٍ، أَوْ صُوفِيٌّ إلَى خَانْقَاهْ لَمْ يُزْعَجْ، وَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ بِخُرُوجِهِ لِشِرَاءِ حَاجَةٍ وَنَحْوِهِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ سَبَقَ رَجُلٌ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ رِبَاطٍ مُسَبَّلٍ‏)‏ فِي طَرِيقٍ أَوْ طَرَفِ بَلَدٍ وَهُوَ مِمَّنْ يَسْكُنُهُ مِثْلُهُ ‏(‏أَوْ‏)‏ سَبَقَ ‏(‏فَقِيهٌ إلَى مَدْرَسَةٍ أَوْ صُوفِيٌّ‏)‏ وَهُوَ وَاحِدُ الصُّوفِيَّةِ ‏(‏إلَى خَانْقَاهْ‏)‏ وَهِيَ مَكَانُ الصُّوفِيَّةِ ‏(‏لَمْ يُزْعَجْ‏)‏ مِنْهُ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ أَمْ لَا ‏(‏وَلَمْ يَبْطُل حَقُّهُ‏)‏ مِنْهُ ‏(‏بِخُرُوجِهِ لِشِرَاءِ حَاجَةٍ‏)‏ كَشِرَاءِ طَعَامٍ ‏(‏وَنَحْوِهِ‏)‏ كَصَلَاةٍ وَحَمَّامٍ سَوَاءٌ أَخْلَفَ فِيهِ غَيْرَهُ أَمْ مَتَاعَهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَدْخَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَمْ لَا، إلَّا إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يَسْكُنَ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ قَوْلِهِ‏:‏ لَوْ سَبَقَ إلَخْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي الدُّخُولِ إلَى إذْنِ النَّاظِرِ وَلَيْسَ مُرَادًا لِلْعُرْفِ كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُصَنِّفُ وَإِنْ حَمَلَهُ ابْنُ الْعِمَادِ عَلَى مَا إذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُسْكِنَ مَنْ شَاءَ وَيَمْنَعَ مَنْ شَاءَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِافْتِيَاتِ عَلَى النَّاظِرِ، وَإِنْ سَكَنَ بَيْتًا وَغَابَ وَلَمْ تَطُلْ غَيْبَتُهُ عُرْفًا ثُمَّ عَادَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ سَكَنَهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ أَلِفَهُ مَعَ سَبْقِهِ إلَيْهِ، وَلَا يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ سُكْنَاهُ مُدَّةَ غَيْبَتِهِ، عَلَى أَنْ يُفَارِقَهُ إذَا حَضَرَ، فَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ بَطَلَ حَقُّهُ، وَلَوْ طَالَ مَقَامُ الْمُرْتَفِقِ فِي شَارِعٍ وَنَحْوِهِ - كَمَسْجِدٍ - لَمْ يُزْعَجْ إلَّا فِي الرُّبُطِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْمُسَافِرِينَ فَلَا يُزَادُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا إلَّا لِخَوْفٍ أَوْ مَطَرٍ، وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ مُدَّةً لَمْ يُزَدْ عَلَيْهَا، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُعْمَلُ بِالْعُرْفِ فَيُقِيمُ الطَّالِبُ فِي الْمَدْرَسَةِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ حَتَّى يَقْضِيَ غَرَضَهُ أَوْ يَتْرُكَ التَّعَلُّمَ وَالتَّحْصِيلَ فَيُزْعَجَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُ إذَا نَزَلَ فِي مَدْرَسَةٍ أَشْخَاصٌ لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَحُضُورِ الدَّرْسِ وَقُدِّرَ لَهُمْ مِنْ الْجَامِكِيَّةِ مَا يَسْتَوْعِبُ قَدْرَ ارْتِفَاعِ وَقْفِهَا؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْزِلَ زِيَادَةً عَلَيْهِمْ بِمَا يُنْقِصُ مَا قُرِّرَ لَهُمْ مِنْ الْمَعْلُومِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِمْ، وَفِي فَوَائِدِ الْمُهَذَّبِ لِلْفَارِقِيِّ فِي آخَرِ زَكَاةِ الْفِطْرِ‏:‏ يَجُوزُ لِلْفُقَهَاءِ الْإِقَامَةُ فِي الرُّبُطِ وَتَنَاوُلِ مَعْلُومِهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَصَوِّفِ الْقُعُودُ فِي الْمَدَارِسِ وَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُطْلَقُ بِهِ اسْمُ الْمُتَصَوِّفِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْفَقِيهِ، وَمَا يُطْلَقُ بِهِ اسْمُ الْفَقِيهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الصُّوفِيِّ، وَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُخُولُ الْمَدَارِسِ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ فِيهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَى الْعُرْفُ بِهِ، لَا السُّكْنَى إلَّا الْفَقِيهَ أَوْ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ‏.‏

فَرْعٌ‏:‏

النَّازِلُونَ بِمَوْضِعٍ فِي الْبَادِيَةِ فِي غَيْرِ مَرْعَى الْبَلَدِ لَا يُمْنَعُونَ وَلَمْ يَزْحَمُوا بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى الْمَرْعَى وَالْمَرَافِقِ إنْ ضَاقَتْ، فَإِنْ اسْتَأْذَنُوا الْإِمَامَ فِي اسْتِيطَانِ الْبَادِيَةِ وَلَمْ يَضُرَّ نُزُولُهُمْ بِابْنِ السَّبِيلِ رَاعَى الْأَصْلَحَ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا نَزَلُوهَا بِغَيْرِ إذْنٍ وَهُمْ غَيْرُ مُضِرِّينَ بِالسَّابِلَةِ؛ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إلَّا إنْ ظَهَرَ فِي مَنْعِهِمْ مَصْلَحَةٌ فَلَهُ ذَلِكَ‏.‏